سورة الإسراء - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


قوله: {سُبْحَانَ الذى أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} هو مصدر سبح، يقال: سبح يسبح تسبيحاً وسبحاناً، مثل كفر اليمين تكفيراً وكفراناً، ومعناه التنزيه والبراءة لله من كل نقص.
وقال سيبويه: العامل فيه فعل لا من لفظه، والتقدير: أنزه الله تنزيهاً، فوقع سبحان مكان تنزيهاً، فهو على هذا مثل قعد القرفصاء واشتمل الصماء؛ وقيل: هو علم للتسبيح كعثمان للرجل، وانتصابه بفعل مضمر متروك إظهاره تقديره أسبح الله سبحان، ثم نزل منزلة الفعل وسدّ مسدّه، وقد قدّمنا في قوله: {سبحانك لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32]. طرفاً من الكلام المتعلق بسبحان. والإسراء قيل: هو سير الليل، يقال: سرى وأسرى، كسقى وأسقى لغتان، وقد جمع بينهما الشاعر في قوله:
حي النضير ربة الخدر *** أسرت إليّ ولم تكن تسري
وقيل هو سير أوّل الليل خاصة، وإذا كان الإسراء لا يكون إلاّ في الليل فلا بدّ للتصريح بذكر الليل بعده من فائدة، فقيل: أراد بقوله: {ليلاً} تقليل مدّة الإسراء، وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسافة أربعين ليلة. ووجه دلالة {ليلاً} على تقليل المدّة ما فيه من التنكير الدالّ على البعضية، بخلاف ما إذا قلت: سريت الليل فإنه يفيد استيعاب السير له جميعاً.
وقد استدلّ صاحب الكشاف على إفادة ليلاً للبعضية بقراءة عبد الله وحذيفة: {من الليل}.
وقال الزجاج: معنى {أسرى بعبده ليلاً} سير عبده، يعني: محمداً ليلاً، وعلى هذا فيكون معنى أسرى: معنى سير، فيكون للتقيد بالليل فائدة، وقال: {بعبده} ولم يقل: بنبيه أو رسوله، أو بمحمد تشريفاً له صلى الله عليه وسلم. قال أهل العلم: لو كان غير هذا الاسم أشرف منه، لسماه الله سبحانه به في هذا المقام العظيم، والحالة العلية:
لا تدعني إلا بياعبدها *** فإنه أشرف أسمائي
ادعاء بأسماء نبزا في قبائلها *** كأن أسماء أضحت بعض أسمائي
{مّنَ المسجد الحرام} قال الحسن وقتادة: يعني المسجد نفسه، وهو ظاهر القرآن.
وقال عامة المفسرين: أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم من دار أم هانئ، فحملوا المسجد الحرام على مكة، أو الحرام، لإحاطة كل واحد منهما بالمسجد الحرام، أو لأن الحرم كله مسجد. ثم ذكر سبحانه الغاية التي أسرى برسوله إليها فقال: {إلى المسجد الاقصى} وهو بيت المقدس. وسمي الأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام، ولم يكن حينئذٍ وراءه مسجد، ثم وصف المسجد الأقصى بقوله: {الذى بَارَكْنَا حَوْلَهُ} بالثمار والأنهار والأنبياء والصالحين، فقد بارك الله سبحانه حول المسجد الأقصى ببركات الدنيا والآخرة. وفي {باركنا} بعد قوله: {أسرى} التفات من الغيبة إلى التكلم. ثم ذكر العلة التي أسرى به لأجلها فقال: {لِنُرِيَهُ مِنْ ءاياتنا} أي: ما أراه الله سبحانه في تلك الليلة من العجائب التي من جملتها قطع هذه المسافة الطويلة في جزء من الليل {إنَّهُ} سبحانه: {هُوَ السميع} بكل مسموع، ومن جملة ذلك قول رسوله صلى الله عليه وسلم {البصير} بكل مبصر، ومن جملة ذلك ذات رسوله وأفعاله.
وقد اختلف أهل العلم هل كان الإسراء بجسده صلى الله عليه وسلم مع روحه، أو بروحه فقط؟ فذهب معظم السلف والخلف إلى الأوّل، وذهب إلى الثاني طائفة من أهل العلم منهم عائشة، ومعاوية، والحسن، وابن إسحاق، وحكاه ابن جرير عن حذيفة بن اليمان، وذهبت طائفة إلى التفصيل فقالوا: كان الإسراء بجسده يقظة إلى بيت المقدس، وإلى السماء بالروح، واستدلوا على هذا التفصيل بقوله: {إلى المسجد الاقصى} فجعله غاية للإسراء بذاته صلى الله عليه وسلم. فلو كان الإسراء من بيت المقدس إلى السماء، وقع بذاته لذكره، والذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة الكثيرة هو ما ذهب إليه معظم السلف والخلف من أن الإسراء بجسده وروحه يقظة إلى بيت المقدس، ثم إلى السموات، ولا حاجة إلى التأويل وصرف هذا النظم القرآني وما يماثله من ألفاظ الأحاديث إلى ما يخالف الحقيقة، ولا مقتضى لذلك إلاّ مجرد الاستبعاد وتحكيم محض العقول القاصرة عن فهم ما هو معلوم من أنه لا يستحيل عليه سبحانه شيء، ولو كان ذلك مجرد رؤيا كما يقوله من زعم أن الإسراء كان بالروح فقط، وأن رؤيا الأنبياء حق لم يقع التكذيب من الكفرة للنبي صلى الله عليه وسلم عند إخباره لهم بذلك حتى ارتدّ من ارتدّ ممن لم يشرح بالإيمان صدراً، فإن الإنسان قد يرى في نومه ما هو مستبعد، بل ما هو محال ولا ينكر ذلك أحد؛ وأما التمسك لمن قال بأن هذا الإسراء إنما كان بالروح على سبيل الرؤيا بقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرءيا التى أريناك إِلاَّ فِتْنَةً لّلنَّاسِ} [الإسراء: 60] فعلى تسليم أن المراد بهذه الرؤيا هو هذا الإسراء فالتصريح الواقع هنا بقوله: {سُبْحَانَ الذى أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} والتصريح في الأحاديث الصحيحة الكثيرة بأنه أسرى به لا تقصر عن الاستدلال بها على تأويل هذه الرؤيا الواقعة في الآية برؤية العين، فإنه قد يقال لرؤية العين رؤيا، وكيف يصح حمل هذا الإسراء على الرؤيا مع تصريح الأحاديث الصحيحة بأن النبي صلى الله عليه وسلم ركب البراق؟ وكيف يصح وصف الروح بالركوب؟ وهكذا كيف يصح حمل هذا الإسراء على الرؤيا مع تصريحه بأنه كان عند أن أسري به بين النائم واليقظان؟
وقد اختلف أيضاً في تاريخ الإسراء، فروي أن ذلك كان قبل الهجرة إلى المدينة بسنة.
وروي أن الإسراء كان قبل الهجرة بأعوام. ووجه ذلك أن خديجة صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد ماتت قبل الهجرة بخمس سنين، وقيل: بثلاث؛ وقيل: بأربع، ولم تفرض الصلاة إلاّ ليلة الإسراء.
وقد استدل بهذا ابن عبد البرّ على ذلك، وقد اختلفت الرواية عن الزهري. وممن قال بأن الإسراء كان قبل الهجرة بسنة الزهري في رواية عنه، وكذلك الحربي فإنه قال: أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم ليلة سبع وعشرين من ربيع الأوّل قبل الهجرة بسنة.
وقال ابن القاسم في تاريخه: كان الإسراء بعد مبعثه بثمانية عشر شهراً. قال ابن عبد البرّ: لا أعلم أحداً من أهل السير قال بمثل هذا.
وروي عن الزهري أنه أسري به قبل مبعثه بسبعة أعوام، وروي عنه أنه قال: كان قبل مبعثه بخمس سنين.
وروى يونس عن عروة عن عائشة أنها قالت: توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة.
{وَءاتَيْنَآ مُوسَى الكتاب} أي: التوراة، قيل: والمعنى كرّمنا محمداً بالمعراج وأكرمنا موسى بالكتاب {وجعلناه} أي: ذلك الكتاب؛ وقيل: موسى {هُدًى لّبَنِى إسراءيل} يهتدون به {أَن لا تَتَّخِذُواْ}. قرأ أبو عمر بالياء التحتية، وقرأ الباقون بالفوقية أي: لئلا يتخذوا. والمعنى: آتيناه الكتاب لهداية بني إسرائيل لئلا يتخذوا {مِن دُونِى وَكِيلاً} قال الفراء: أي كفيلاً بأمورهم، وروي عنه أنه قال: كافياً؛ وقيل: أي متوكلون عليه في أمورهم، وقيل: شريكاً، ومعنى الوكيل في اللغة من توكل إليه الأمور. {ذُرّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} نصب على الاختصاص أو النداء، ذكرهم سبحانه إنعامه عليهم في ضمن إنجاء آبائهم من الغرق، ويجوز أن يكون المفعول الأوّل لقوله: {أن لا تتخذوا} أي: لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح من دوني وكيلاً، كقوله: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَابًا} [آل عمران: 80]. وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو بدل من فاعل {تتخذوا} وقرأ مجاهد بفتح الذال، وقرأ زيد بن ثابت بكسرها، والمراد بالذرية هنا: جميع من في الأرض، لأنهم من ذرية من كان في السفينة؛ وقيل: موسى وقومه من بني إسرائيل. وهذا هو المناسب لقراءة النصب على النداء والنصب على الاختصاص، والرفع على البدل وعلى الخبر، فإنها كلها راجعة إلى بني إسرائيل المذكورين، وأما على جعل النصب على أن {ذرية} هي المفعول الأوّل لقوله: {لا تتخذوا} فالأولى تفسير الذرية بجميع من في الأرض من بني آدم. {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} أي: نوحاً، وصفه الله بكثرة الشكر وجعله كالعلة لما قبله إيذاناً بكون الشكر من أعظم أسباب الخير، ومن أفضل الطاعات حثاً لذريته على شكر الله سبحانه.
وقد أخرج ابن مردويه عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، قال: أسري بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول قبل الهجرة بسنة.
وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن شهاب قال: أسري برسول الله إلى بيت المقدس قبل خروجه إلى المدينة بسنة.
وأخرج البيهقي عن عروة مثله.
وأخرج البيهقي أيضاً عن السدّي قال: أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مهاجره بستة عشر شهراً.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله: {الذى بَارَكْنَا حَوْلَهُ} قال: أنبتنا حوله الشجر.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وَءاتَيْنَآ مُوسَى الكتاب وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لّبَنِى إسراءيل} قال: جعله الله هدى يخرجهم من الظلمات إلى النور وجعله رحمة لهم.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِى وَكِيلاً} قال: شريكاً.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: {ذُرّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} قال: هو على النداء. يا ذرية من حملنا مع نوح.
وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن زيد الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «{ذرية من حملنا مع نوح} ما كان مع نوح إلاّ أربعة أولاد: حام، وسام، ويافث، وكوش، فذلك أربعة أولاد انتسلوا هذا الخلق» واعلم أنه قد أطال كثير من المفسرين كابن كثير والسيوطي وغيرهما في هذا الموضع بذكر الأحاديث الواردة في الإسراء على اختلاف ألفاظها، وليس في ذلك كثير فائدة، فهي معروفة في موضعها من كتب الحديث، وهكذا أطالوا بذكر فضائل المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وهو مبحث آخر، والمقصود في كتب التفسير ما يتعلق بتفسير ألفاظ الكتاب العزيز، وذكر أسباب النزول، وبيان ما يؤخذ منه من المسائل الشرعية، وما عدا ذلك فهو فضلة لا تدعو إليه حاجة.


قوله: {وَقَضَيْنَا إلى بَنِى إسراءيل فِى الكتاب} أي: أعلمنا وأخبرنا، أو حكمنا وأتممنا، وأصل القضاء: الإحكام للشيء والفراغ منه؛ وقيل: أوحينا، ويدل عليه قوله إلى بني إسرائيل، ولو كان بمعنى الإعلام والإخبار لقال: قضينا بني إسرائيل، ولو كان بمعنى حكمنا لقال: على بني إسرائيل، ولو كان بمعنى أتممنا لقال: لبني إسرائيل، والمراد بالكتاب: التوراة، ويكون إنزالها على نبيهم موسى كإنزالها عليهم لكونهم قومه؛ وقيل: المراد بالكتاب: اللوح المحفوظ. وقرأ أبو العالية وسعيد بن جبير: {في الكتب}. وقرأ عيسى الثقفي: {لتفسدنّ في الأرض} بفتح المثناة، ومعنى هذه القراءة قريب من معنى قراءة الجمهور، لأنهم إذا أفسدوا فسدوا في نفوسهم، والمراد بالفساد: مخالفة ما شرعه الله لهم في التوراة، والمراد بالأرض أرض الشام وبيت المقدس؛ وقيل: أرض مصر، واللام في {لتفسدن} جواب قسم محذوف. قال النيسابوري: أو أجري القضاء المبتوت مجرى القسم كأنه قيل: وأقسمنا لتفسدنّ. وانتصاب {مَّرَّتَيْنِ} على أنه صفة مصدر محذوف، أو على أنه في نفسه مصدر عمل فيه ما هو من غير جنسه، والمرة الأولى: قتل شعياء أو حبس أرمياء، أو مخالفة أحكام التوراة، والثانية: قتل يحيى بن زكريا والعزم على قتل عيسى {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً} هذه اللام كاللام التي قبلها، أي: لتستكبرنّ عن طاعة الله ولتستعلنّ على الناس بالظلم والبغي مجاوزين للحد في ذلك {فَإِذَا جَآء وَعْدُ أولاهما} أي: أولى المرتين المذكورتين {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ} أي: قوّة في الحروب وبطش عند اللقاء. قيل: هو بختنصر وجنوده؛ وقيل: جالوت؛ وقيل: جند من فارس؛ وقيل: جند من بابل {فَجَاسُواْ خلال الديار} أي: عاثوا وتردّدوا، يقال: جاسوا وهاسوا وداسوا بمعنى، ذكره ابن غرير والقتيبي. قال الزجاج: معناه طافوا خلال الديار، هل بقي أحد لم يقتلوه؟ قال: والجوس طلب الشيء باستقصاء. قال الجوهري: الجوس مصدر قولك جاسوا خلال الديار، أي: تخللوها، كما يجوس الرجل للأخبار، أي: يطلبها، وكذا قال أبو عبيدة.
وقال ابن جرير: معنى جاسوا طافوا بين الديار يطلبونهم ويقتلونهم ذاهبين وجائين.
وقال الفراء: معناه قتلوهم بين بيوتهم وأنشد لحسان:
وَمِنَّا الذي لاقي بسَيْفٍ مُحَمَّدٍ *** فَجاسَ بِهِ الأعْدَاءَ عُرْض العَسِاكِرِ
وقال قطرب: معناه نزلوا. وأنشد قول الشاعر:
فجسنا ديارهم عنوة *** وأُبنَا بساداتهم موثقينا
وقرأ ابن عباس: {فحاسوا} بالحاء المهملة. قال أبو زيد: الحوس، والجوس، والعوس، والهوس: الطوف بالليل، وقيل: الطوف بالليل هو الجوسان محركاً، كذا قال أبو عبيدة. وقرئ: {خلل الديار}. ومعناه معنى خلال وهو: وسط الديار {وَكَانَ} ذلك {وَعْدًا مَّفْعُولاً} أي: كائناً لا محالة. {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ} أي: الدولة والغلبة والرجعة، وذلك عند توبتهم.
قيل: وذلك حين قتل داود جالوت، وقيل: حين قتل بختنصر {وأمددناكم بأموال وَبَنِينَ} بعد نهب أموالكم وسبي أبنائكم، حتى عاد أمركم كما كان. {وجعلناكم أَكْثَرَ نَفِيرًا} قال أبو عبيدة: النفير: العدد من الرجال؛ فالمعنى؛ أكثر رجالاً من عدوكم، والنفير: من ينفر مع الرجل من عشيرته، يقال: نفير ونافر مثل: قدير وقدر، ويجوز أن يكون النفير جمع: نفر {إِنْ أَحْسَنتُمْ} أي: أفعالكم وأقوالكم على الوجه المطلوب منكم، {أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ} لأن ثواب ذلك عائد إليكم {وَإِنْ أَسَأْتُمْ} أفعالكم وأقوالكم فأوقعتموها لا على الوجه المطلوب منكم، {فَلَهَا} أي: فعليها. ومثله قول الشاعر:
فخر صريعاً لليدين وللفم ***
أي: على اليدين وعلى الفم. قال ابن جرير: اللام بمعنى إلى، أي: فإليها ترجع الإساءة كقوله تعالى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 5] أي: إليها؛ وقيل: المعنى: فلها الجزاء أو العقاب.
وقال الحسين بن الفضل: فلها ربّ يغفر الإساءة، وهذا الخطاب: قيل هو لبني إسرائيل الملابثين لما ذكر في هذه الآيات، وقيل: لبني إسرائيل الكائنين في زمن محمد صلى الله عليه وسلم، ومعناه: إعلامهم ما حل بسلفهم فليرتقبوا مثل ذلك، وقيل: هو خطاب لمشركي قريش. {فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخرة} أي: حضر وقت ما وعدوا من عقوبة المرة الآخرة، والمرة الآخرة: هي قتلهم يحيى بن زكريا كما سبق، وقصة قتله مستوفاة في الإنجيل، واسمه فيه يوحنا، قتله ملك من ملوكهم بسبب امرأة حملته على قتله، واسم الملك لاخت قاله ابن قتيبة.
وقال ابن جرير: هيردوس، وجواب {إذا} محذوف، تقديره: بعثناهم، لدلالة جواب {إذا} الأولى عليه، {يسؤووا وُجُوهَكُمْ} متعلق بهذا الجواب المحذوف أي: ليفعلوا بكم ما يسوء وجوهكم حتى تظهر عليكم آثار المساءة، وتتبين في وجوهكم الكآبة، وقيل: المراد بالوجوه السادة منهم. وقرأ الكسائي: {لنسوء} بالنون، على أن الضمير لله سبحانه. وقرأ أبيّ: {لنسوءن} بنون التأكيد. وقرأ أبو بكر، والأعمش، وابن وثاب، وحمزة، وابن عامر {ليسوء} بالتحتية والإفراد. قال الزجاج: كل شيء كسرته وفتته فقد تبرته، والضمير: لله أو الوعد {وَلِيَدْخُلُواْ المسجد} معطوف على {ليسوءوا}. {كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبّرُواْ} أي: يدمروا ويهلكوا، وقال قطرب: يهدموا، ومنه قول الشاعر:
فما الناسُ إلاّ عامِلان فَعَاملٌ *** يُتَبِّر ما يَبْنِي وآخر رافع
وقرأ الباقون بالتحتية، وضم الهمزة، وإثبات واو بعدها على أن الفاعل عباد لنا {مَا عَلَوْاْ} أي: ما غلبوا عليه من بلادكم، أو مدة علوهم {تَتْبِيرًا} أي: تدميراً، ذكر المصدر إزالة للشك وتحقيقاً للخبر. {عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ} يا بني إسرائيل بعد انتقامه منكم في المرة الثانية. {وَإِنْ عُدتُّمْ} للثالثة {عُدْنَا} إلى عقوبتكم. قال أهل السير: ثم إنهم عادوا إلى ما لا ينبغي وهو تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وكتمان ما ورد من بعثه في التوراة والإنجيل، فعاد الله إلى عقوبتهم على أيدي العرب، فجرى على بني قريظة والنضير وبني قينقاع وخيبر ما جرى من القتل والسبي والإجلاء وضرب الجزية على من بقي منهم، وضرب الذلة والمسكنة.
{وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ للكافرين حَصِيرًا} وهو المحبس، فهو فعيل بمعنى فاعل أو مفعول. والمعنى: أنهم محبوسون في جهنم لا يتخلصون عنها أبداً. قال الجوهري: حصره يحصره حصراً: ضيق عليه وأحاط به؛ وقيل: فراشاً ومهاداً،- وأراد على هذا- بالحصير: الحصير الذي يفرشه الناس {إِنَّ هذا القرءان يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ} يعني: القرآن يهدي الناس الطريقة التي هي أقوم من غيرها من الطرق وهي ملة الإسلام، فالتي هي أقوم صفة لموصوف محذوف وهي الطريق.
وقال الزجاج: للحال التي هي أقوم الحالات، وهي توحيد الله والإيمان برسله، وكذا قال الفراء. {وَيُبَشّرُ المؤمنين} قرأ حمزة والكسائي: {يبشر} بفتح الياء وضم الشين. وقرأ الباقون بضم الياء وكسر الشين من التبشير أي: يبشر بما اشتمل عليه من الوعد بالخير آجلاً وعاجلاً للمؤمنين {الذين يَعْمَلُونَ الصالحات} التي أرشد إلى عملها القرآن {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} أي: بأنّ لهم. {وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة} وأحكامها المبينة في القرآن {أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} وهو عذاب النار، وهذه الجملة معطوفة على جملة يبشر بتقدير: يخبر، أي: ويخبر بأن الذين لا يؤمنون بالآخرة؛ وقيل: معطوفة على قوله: {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} ويراد بالتبشير: مطلق الإخبار، أو يكون المراد منه معناه الحقيقي، ويكون الكلام مشتملاً على تبشير المؤمنين ببشارتين: الأولى: مالهم من الثواب، والثانية: ما لأعدائهم من العقاب. {وَيَدْعُ الإنسان بالشر} المراد بالإنسان هنا: الجنس، لوقوع هذا الدعاء من بعض أفراده، وهو دعاء الرجل على نفسه وولده عند الضجر بما لا يحب أن يستجاب له {دُعَاءهُ بالخير} أي: مثل دعائه لربه بالخير لنفسه ولأهله كطلب العافية والرزق ونحوهما، فلو استجاب الله دعاءه على نفسه بالشرّ هلك، لكنه لم يستجب تفضلاً منه ورحمة، ومثل ذلك {وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير} [يونس: 11].
وقد تقدّم؛ وقيل: المراد بالإنسان هنا القائل هذه المقالة: هو الكافر يدعو لنفسه بالشرّ، وهو استعجال العذاب دعاءه بالخير كقول القائل: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]. وقيل: هو أن يدعو في طلب المحظور كدعائه في طلب المباح، وحذفت الواو من {ويدع الإنسان} في رسم المصحف لعدم التلفظ بها لوقوع اللام الساكنة بعدها كقوله: {سَنَدْعُ الزبانية} [العلق: 18] و{وَيَمْحُ الله الباطل} [الشورى: 24] و{وَسَوْفَ يُؤْتِ الله المؤمنين} [النساء: 146] ونحو ذلك.
{وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} أي: مطبوعاً على العجلة، ومن عجلته: أنه يسأل الشر كما يسأل الخير؛ وقيل: إشارته إلى آدم عليه السلام حين نهض قبل أن تكمل فيه الروح، والمناسب للسياق هو الأوّل.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَقَضَيْنَا إلى بَنِى إسراءيل} قال: أعلمناهم.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: أخبرناهم.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً: {وقَضَيْنَا إلى بَنِى إسراءيل}: قضينا عليهم.
وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن عليّ في قوله: {لَتُفْسِدُنَّ فِى الارض مَرَّتَيْنِ} قال: الأولى: قتل زكريا، والآخرة: قتل يحيى.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في الآية، قال: كان أوّل الفساد قتل زكريا، فبعث الله عليهم ملك النبط، ثم إن بني إسرائيل تجهزوا فغزوا النبط فأصابوا منهم، فذلك قوله: {ثم رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ}.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: بعث الله عليهم في الأولى جالوت، وبعث عليهم في المرة الأخرى بختنصر، فعادوا فسلط الله عليهم المؤمنين.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه {فَجَاسُواْ} قال: فمشوا.
وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: {تَتْبِيرًا} تدميراً.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله: {عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ} قال: كانت الرحمة التي وعدهم بعث محمد صلى الله عليه وسلم.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} قال: فعادوا فبعث الله سبحانه عليهم محمداً، فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون. واعلم أنها قد اختلفت الروايات في تعيين الواقع منهم في المرّتين، وفي تعيين من سلطه الله عليهم، وفي كيفية الانتقام منهم، ولا يتعلق بذلك كثير فائدة.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ للكافرين حَصِيرًا} قال: سجنا.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه، قال: معنى حصيراً: جعل الله مأواهم فيها.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: {حَصِيرًا} قال: فراشاً ومهاداً.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله: {إِنَّ هذا القرءان يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ} قال: للتي هي أصوب.
وأخرج الحاكم عن ابن مسعود أنه كان يتلو كثيراً {إِنَّ هذا القرءان يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ} بالتخفيف.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَاءهُ بالخير} يعني قول الإنسان: اللهم العنه واغضب عليه.
وأخرج ابن جرير عنه في قوله: {وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} قال: ضجراً، لا صبر له على سرّاء ولا ضرّاء.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عساكر عن سلمان الفارسي قال: أوّل ما خلق الله من آدم رأسه، فجعل ينظر وهو يخلق وبقيت رجلاه، فلما كان بعد العصر قال: يا ربّ أعجل قبل الليل، فذلك قوله: {وَكَانَ الإنسان عَجُولاً}.


لما ذكر سبحانه دلائل النبوة والتوحيد، أكدها بدليل آخر من عجائب صنعه وبدائع خلقه فقال: {وَجَعَلْنَا اليل والنهار ءايَتَيْنِ} وذلك لما فيهما من الإظلام والإنارة مع تعاقبهما وسائر ما اشتملا عليه من العجائب التي تحار في وصفها الأفهام، ومعنى كونهما آيتين أنهما يدلان على وجود الصانع وقدرته، وقدّم الليل على النهار لكونه الأصل. {فَمَحَوْنَا ءايَةَ اليل} أي: طمسنا نورها، وقد كان القمر كالشمس في الإنارة والضوء. قيل: ومن آثار المحو السواد الذي يرى في القمر، وقيل المراد بمحوها أنه سبحانه خلقها ممحوة الضوء مطموسة، وليس المراد أنه محاها بعد أن لم تكن كذلك {وجعلنا آية النهار مبصرة} أي: جعل سبحانه شمسه مضيئة تبصر فيها الأشياء. قال أبو عمرو بن العلاء والكسائي: هو من قول العرب: أبصر النهار إذا صار بحالة يبصر بها؛ وقيل: مبصرة للناس من قوله أبصره فبصر. فالأوّل وصف لها بحال أهلها، والثاني وصف لها بحال نفسها، وإضافة آية إلى الليل والنهار بيانية أي: فمحونا الآية التي هي الليل والآية التي هي النهار كقولهم نفس الشيء وذاته. {لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ} أي: لتتوصلوا ببياض النهار إلى التصرف في وجوه المعاش، واللام متعلق بقوله: {وجعلنا آية النهار مبصرة} أي: جعلناها لتبتغوا فضلاً من ربكم أي: رزقاً، إذ غالب تحصيل الأرزاق وقضاء الحوائج يكون بالنهار، ولم يذكر هنا السكون في الليل اكتفاء بما قاله في موضع آخر {وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً} [يونس: 67]. ثم ذكر مصلحة أخرى في ذلك الجعل فقال: {وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} وهذا متعلق بالفعلين جميعاً، أعني: محونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة، لا بأحدهما فقط كالأوّل. إذ لا يكون علم عدد السنين والحساب، إلاّ باختلاف الجديدين ومعرفة الأيام والشهور والسنين. والفرق بين العدد والحساب: أن العدد إحصاء ماله كمية بتكرير أمثاله من غير أن يتحصل منه شيء، والحساب إحصاء ماله كمية بتكرير أمثاله من حيث يتحصل بطائفة معينة منها حدّ معين منه له اسم خاص؛ فالسنة مثلاً إن وقع النظر إليها من حيث عدد أيامها فذلك هو العدد، وإن وقع النظر إليها من حيث تحققها وتحصلها من عدّة أشهر. قد يحصل كل شهر من عدّة أيام، قد يحصل كل يوم من عدّة ساعات، قد تحصلت كل ساعة من عدّة دقائق، فذلك هو الحساب. {وَكُلَّ شَئ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} أي: كل ما تفتقرون إليه في أمر دينكم ودنياكم بيناه تبييناً واضحاً لا يلتبس. وعند ذلك تنزاح العلل وتزول الأعذار {لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ} [الأنفال: 42]. ولهذا قال: {وَكُلَّ إنسان ألزمناه طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ} قال أبو عبيدة: الطائر عند العرب الحظ.
ويقال له البخت: فالطائر ما وقع للشخص في الأزل بما هو نصيبه من العقل والعمل والعمر والرزق والسعادة والشقاوة؛ كأن طائراً يطير إليه من وكر الأزل وظلمات عالم الغيب طيراناً لا نهاية له ولا غاية إلى أن انتهى إلى ذلك الشخص في وقته المقدّر من غير خلاص ولا مناص.
وقال الأزهري: الأصل في هذا أن الله سبحانه لما خلق آدم علم المطيع من ذريته والعاصي، فكتب ما علمه منهم أجمعين، وقضى سعادة من علمه مطيعاً وشقاوة من علمه عاصياً، فطار لكل منهم ما هو صائر إليه عند خلقه وإنشائه؛ وذلك قوله: {وَكُلَّ إنسان ألزمناه طَآئِرَهُ فِى عُنُقِهِ} أي: ما طار له في علم الله، وفي عنقه عبارة عن اللزوم، كلزوم القلادة العنق من بين ما يلبس. قال الزجاج: ذكر العنق عبارة عن اللزوم كلزوم القلادة العنق. {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَابًا يلقاه مَنْشُوراً}. قرأ ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وابن محيصن، وأبو جعفر، ويعقوب: {ويخرج} بالمثناة التحتية المفتوحة وبالراء المضمومة على معنى ويخرج له الطائر. {وكتاباً} منصوب على الحال، ويجوز أن يكون المعنى: يخرج لها الطائر فيصير كتاباً. وقرأ يحيى بن وثاب {يُخِرج} بضم الياء وكسر الراء: أي: يخرج الله. وقرأ شيبة ومحمد بن السميفع، وروي أيضاً عن أبي جعفر: {يُخرج} بضم الياء وفتح الراء على البناء للمفعول أي: ويخرج له الطائر كتاباً. وقرأ الباقون {ونخرج} بالنون على أن المخرج هو الله سبحانه. و{كتاباً} مفعول به، واحتج أبو عمرو لهذه القراءة بقوله تعالى: {ألزمناه}. وقرأ أبو جعفر، والحسن، وابن عامر: {يلقاه} بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف، وقرأ الباقون بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف. وإنما قال سبحانه: {يلقاه مَنْشُوراً} تعجيلاً للبشرى بالحسنة وللتوبيخ على السيئة. {اقرأ كتابك} أي نقول له: إقرأ كتابك، أو قائلين له، قيل: يقرأ ذلك الكتاب من كان قارئاً، ومن لم يكن قارئاً {كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا} الباء في: {بنفسك} زائدة. و{حسيباً} تمييز، أي: حاسباً. قال سيبويه: ضريب القادح بمعنى: ضاربها، وصريم بمعنى صارم، ويجوز أن يكون الحسيب بمعنى الكافي، ثم وضع موضع الشهيد فعدّي ب {على} والنفس بمعنى الشخص، ويجوز أن يكون الحسيب بمعنى: المحاسب كالشريك والجليس. {مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ} بين سبحانه أن ثواب العمل الصالح وعقاب ضدّه يختصان بفاعلهما لا يتعدان منه إلى غيره، فمن اهتدى بفعل ما أمره الله به وترك ما نهاه الله عنه، فإنما تعود منفعة ذلك إلى نفسه، {وَمَن ضَلَّ} عن طريق الحق فلم يفعل ما أمر به، ولم يترك ما نهي عنه {فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أي: فإن وبال ضلاله واقع على نفسه لا يجاوزها، فكل أحد محاسب عن نفسه، مجزيّ بطاعته معاقب بمعصيته، ثم أكد هذا الكلام بأبلغ تأكيد فقال: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} والوزر الإثم، يقال: وزر: يزر وزراً ووزرة، أي: إثما، والجمع أوزار، والوزر: الثقل.
ومنه {يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ} [الأنعام: 31] أي: أثقال ذنوبهم. ومعنى الآية: لا تحمل نفس حاملة للوزر وزر نفس أخرى حتى تخلص الأخرى عن وزرها وتؤخذ به الأولى، وقد تقدّم مثل هذا في الأنعام. قال الزجاج في تفسير هذه الآية: إن الآثم والمذنب لا يؤاخذ بذنب غيره. {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} لما ذكر سبحانه اختصاص المهتدي بهدايته، والضالّ بضلاله، وعدم مؤاخذة الإنسان بجناية غيره، ذكر أنه لا يعذب عباده إلاّ بعد الإعذار إليهم بإرسال رسله، وإنزال كتبه، فبين سبحانه أنه لم يتركهم سدًى، ولا يؤاخذهم قبل إقامة الحجة عليهم، والظاهر أنه لا يعذبهم لا في الدنيا ولا في الآخرة إلاّ بعد الإعذار إليهم بإرسال الرسل، وبه قالت طائفة من أهل العلم.
وذهب الجمهور إلى أن المنفي هنا هو عذاب الدنيا لا عذاب الآخرة. {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا} اختلف المفسرون في معنى {أمرنا} على قولين: الأوّل أن المراد به الأمر الذي هو نقيض النهي، وعلى هذا اختلفوا في المأمور به، فالأكثر على أنه: الطاعة والخير.
وقال في الكشاف: معناه أمرناهم بالفسق ففسقوا، وأطال الكلام في تقرير هذا وتبعه المقتدون به في التفسير، وما ذكره هو ومن تابعه معارض بمثل قول القائل: أمرته فعصاني، فإن كل من يعرف اللغة العربية يفهم من هذا أن المأمور به شيء غير المعصية، لأن المعصية منافية للأمر، مناقضة له، فكذلك: أمرته ففسق يدل على أن المأمور به شيء غير الفسق؛ لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به، فكونه فسقاً ينافي كونه مأموراً به ويناقضه. القول الثاني أن معنى {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} أكثرنا فساقها. قال الواحدي: تقول العرب أمر القوم، إذا كثروا وأمرهم الله: إذا أكثرهم.
وقد قرأ أبو عثمان النهدي، وأبو رجاء، وأبو العالية، والربيع، ومجاهد، والحسن: {أمَّرنا} بتشديد الميم، أي: جعلناهم أمراء مسلطين. وقرأ الحسن أيضاً، وقتادة، وأبو حيوة الشامي، ويعقوب، وخارجة عن نافع، وحماد بن سلمة عن ابن كثير وعليّ وابن عباس: {آمرنا} بالمدّ والتخفيف، أي: أكثرنا جبابرتها وأمراءها، قاله الكسائي.
وقال أبو عبيدة: {آمرته} بالمدّ و{أمرته} لغتان بمعنى كثرته، ومنه الحديث: «خير المال مهرة مأمورة» أي: كثيرة النتاج والنسل، وكذا قال ابن عزيز. وقرأ الحسن أيضاً ويحيى بن يعمر: {أمرنا} بالقصر وكسر الميم على معنى فعلنا، ورويت هذه القراءة عن ابن عباس. قال قتادة والحسن: المعنى أكثرنا.
وحكى نحوه أبو زيد وأبو عبيد وأنكره الكسائي وقال: لا يقال من الكثرة إلاّ آمرنا بالمدّ.
قال في الصحاح: وقال أبو الحسن أمر ماله بالكسر، أي: كثر، وأمر القوم، أي: كثروا، ومنه قول لبيد:
إن يُغْبَطُوا يَهْبِطُوا وَإنْ أمِرُوا *** يوماً يكن للهَلاكِ والفَنَدِ
وقرأ الجمهور {أمرنا} من الأمر، ومعناه ما قدّمنا في القول الأوّل، ومعنى {مُتْرَفِيهَا}: المنعمون الذين قد أبطرتهم النعمة وسعة العيش، والمفسرون يقولون في تفسير المترفين: إنهم الجبارون المتسلطون، والملوك الجائرون، قالوا: وإنما خصوا بالذكر لأن من عداهم أتباع لهم، ومعنى {فسقوا فيها}: خرجوا عن الطاعة وتمرضوا في كفرهم، لأن الفسوق الخروج إلى ما هو أفحش {فَحَقَّ عَلَيْهَا القول} أي ثبت وتحقق عليهم العذاب بعد ظهور فسقهم. {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} أي: تدميراً عظيماً لا يوقف على كنهه لشدته وعظم موقعه، وقد قيل في تأويل {أمرنا} بأنه مجاز عن الأمر الحامل لهم على الفسق، وهو إدرار النعم عليهم، وقيل أيضاً: إن المراد ب {أردنا أن نهلك قرية} أنه قرب إهلاك قرية، وهو عدول عن الظاهر بدون ملجئ إليه. ثم ذكر سبحانه أن هذه عادته الجارية مع القرون الخالية فقال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون} أي: كثيراً ما أهلكنا منهم، ف {كم} مفعول {أهلكنا} و{من القرون} بيان ل {كم} وتمييز له؛ أي: كم من قوم كفروا من بعد نوح كعاد وثمود، فحلّ بهم البوار ونزل بهم سوط العذاب؟ وفيه تخويف لكفار مكة. ثم خاطب رسوله بما هو ردع للناس كافة فقال: {وكفى بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا} قال الفراء: إنما يجوز إدخال الباء في المرفوع إذا كان يمدح به صاحبه أو يذم به، كقولك: كفاك، وأكرم به رجلاً، وطاب بطعامك طعاماً، ولا يقال: قام بأخيك، وأنت تريد: قام أخوك. وفي الآية بشارة عظيمة لأهل الطاعة وتخويف شديد لأهل المعصية، لأن العلم التام والخبرة الكاملة والبصيرة النافذة تقتضي إيصال الجزاء إلى مستحقه بحسب استحقاقه، ولا ينافيه مزيد التفضل على من هو أهل لذلك، والمراد بكونه سبحانه: {خبيراً بصيراً} أنه محيط بحقائق الأشياء ظاهراً وباطناً لا تخفى عليه منها خافية.
وقد أخرج البيهقي في دلائل النبوّة، وابن عساكر عن سعيد المقبري: أن عبد الله بن سلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن السواد الذي في القمر، فقال: «كانا شمسين، قال الله {وَجَعَلْنَا اليل والنهار ءايَتَيْنِ فَمَحَوْنَا ءايَةَ اليل} فالسواد الذي رأيت هو المحو».
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم معنى هذا بأطول منه. قال السيوطي: وإسناده واهٍ.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في المصاحف عن عليّ في قوله: {فَمَحَوْنَا ءايَةَ اليل} قال: هو السواد الذي في القمر.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وجعلنا آية النهار مبصرة} قال: منيرة. {لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ} قال: جعل لكم سبحاً طويلاً.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {فَصَّلْنَاهُ} قال: بيناه.
وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، وابن جرير بسندٍ حسن عن جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «طائر كل إنسان في عنقه».
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {ألزمناه طَآئِرَهُ فِى عُنُقِهِ} قال: سعادته وشقاوته وما قدّر الله له وعليه فهو لازمه أين كان.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر عن أنس في قوله: {طَئِرَهُ} قال: كتابه.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: عمله. {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَابًا يلقاه مَنْشُوراً} قال: هو عمله الذي أحصي عليه، فأخرج له يوم القيامة ما كتب له من العمل فقرأه منشوراً.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {اقرأ كتابك} قال: سيقرأ يومئذٍ من لم يكن قارئاً في الدنيا.
وأخرج ابن عبد البرّ في التمهيد عن عائشة في قوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} قال: سألت خديجة عن أولاد المشركين فقال: «هم من آبائهم» ثم سألته بعد ذلك فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين»، ثم سألته بعد ما استحكم الإسلام فنزلت: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} فقال: «هم على الفطرة». أو قال: «في الجنة». قال السيوطي: وسنده ضعيف.
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل فقيل له: يا رسول الله إنا نصيب في البيات من ذراري المشركين، قال: «هم منهم». وفي ذلك أحاديث كثيرة وبحث طويل.
وقد ذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية غالب الأحاديث الواردة في أطفال المشركين، ثم نقل كلام أهل العلم في المسألة فليرجع إليها.
وأخرج إسحاق بن راهويه، وأحمد، وابن حبان، وأبو نعيم في المعرفة، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في كتاب الاعتقاد عن الأسود بن سريع، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصمّ لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في الفترة»، ثم قال: «فيأخذ الله مواثيقهم ليطيعنه ويرسل إليهم رسولاً أن أدخلوا النار»، قال: «فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاما، ومن لم يدخلها يسحب إليها»، وإسناده عند أحمد، هكذا حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي عن أبي قتادة، عن الأحنف بن قيس، عن الأسود بن سريع.
وأخرج نحوه إسحاق بن راهويه، وأحمد، وابن مردويه عن أبي هريرة، وهو عند أحمد بالإسناد المذكور عن قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة.
وأخرج قاسم بن أصبع، والبزار، وأبو يعلى، وابن عبد البرّ في التمهيد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه. وجعل مكان الأحمق المعتوه.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، والطبراني وأبو نعيم عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يؤتى يوم القيامة بالممسوح عقلاً وبالهالك في الفترة، وبالهالك صغيراً» فذكر معناه مطولاً.
وأخرج ابن جرير من طريق ابن جريج عن ابن عباس في قوله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} قال: بطاعة الله فعصوا.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير مثله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن شهر بن حوشب قال: سمعت ابن عباس يقول في الآية: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} بحق فخالفوه، فحق عليهم بذلك التدمير.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عنه في الآية قال: سلطنا شرارنا فعصوا، فإذا فعلوا ذلك، أهلكناهم بالعذاب، وهو كقوله: {وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أكابر مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا} [الأنعام: 123].
وأخرج البخاري، وابن مردويه عن ابن مسعود، قال: كنا نقول للحى إذا كثروا في الجاهلية: قد أمر بنو فلان.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6